تجلّي الطبيعة البشرية بالقيامة
بقلم قداسة البابا شنودة الثالث
أهنئكم يا أبنائي وأخوتي الأحباء بعيد القيامة المجيد، راجياً لكم جميعاً ولمصرنا العزيزة كل خير وبركة من إلهنا الصالح. ومصلياً من أجل كل المشاكل في أفريقيا وفي كل الشرق الأوسط، وفي الأراضي المقدسة وفلسطين.واله السلام قادر أن يفيض بسلامه على الكل. وما لا يستطيعه البشر، يستطيعه الله القادر على كل شئ.
وبعد، أريد أن أكلمكم اليوم عن عنصر هام جداً من عناصر القيامة: وهو أنه فى القيامة يتم تجديد وتجلى الطبيعة البشرية. وتجلى هذه الطبيعة يشملها جسداً وروحاً وعقلاً وفكراً. فتصبح بتجليها فى حياة جديدة، مقدسة تماماً، مختلفة عما كانت قبلاً.
?? فمن جهة الجسد، نحن نقوم بأجساد نورانية روحانية، قد تخلصت تماماً من المادة التى كانت متحدة بها فى الحياة الأرضية، وبالتالي تتخلص من كل حروب المادة وما يتعلق باللحم والدم. وفى تجلى الجسد، لا يشعر الإنسان فى الأبدية بأي جوع، أو عطش، أو تعب، أو مرض، ولا يقاسى من شهوات جسدية أو مادية. ولا من طياشة الحواس وشغبها وانحرافاتها... هذا من الناحية السلبية.
??أما من الناحية الإيجابية، فإن الحواس فى تجليها ترى ما لا يُرى، أو ما لم تكن تراه من قبل. فترى أرواح القديسين الذين سبقوها إلى عالم المجد. وترى الملائكة الذين لم ترهم من قبل، وكلهم أرواح لا يُرون إلا بتجلى البصر البشرى، وفى تجلى الحواس تسمع الطبيعة البشرية ما لم تكن تسمعه من قبل: من التسابيح السمائية، وأناشيد الملائكة، وأصوات الأبرار من كافة البلاد وعلى مر كل العصور. تسمعهم وتتكلم معهم. وهذا لا تحدث إلا بتجلى الطبيعة البشرية.
??الروح أيضاً تتجلى، ولا تخطئ أبداً إلى الأبد. لقد كانت تخطئ عندما كانت متحدة بالجسد، يجرها أحياناً معه فى شهواته وفى اتجاهاته المادية، كما تحيطها المادة بإغراءات كثيرة وحروب. أما في القيامة فقد تخلصت من هذا كله وتحررت. ومنحها الله " إكليل البر " فصارت بارة على الدوام، وأصبحت تتغذى بالحب الإلهي، وتنمو به يوماً بعد يوم. وصارت متعتها الحقيقية هى عشرة الله وملائكته وقديسيه.
??وما أحمل قول السيد المسيح عن الحياة في الأبدية، إذ يقول عنها " تكونون كملائكة الله في السماء ". أي في طهارة الملائكة البعيدة عن كل الشهوات الجسدية، وكذلك خفة الملائكة الذين يتحركون في لمح البصر إلى أبعد مكان، دون أن يقطعوا وسطاً في الطريق.
??في تجلي الطبيعة البشرية، يتجلى العقل أيضاً والفكر والمعرفة. فلا تجول أية فكرة خاطئة في العقل، إذ تكون الطبيعة البشرية قد وصلت في تجليها إلى نقاوة العقل نقاوة كاملة. ويصبح في بساطة أبوينا الأولين قبل السقوط في الخطيئة.
أما عن المعرفة، ففي التجلي لا يعرف الإنسان سوى الخير فقط. لقد كان في القديم في إزدواجية متعبة، من الخير والشر، والحلال والحرام، وما يليق وما لا يليق. يتأرجح ما بين وضع وعسكه. أما في تجلي الطبيعة البشرية، فأصبحت معرفتها قاصرة على الخير فقط. وزالت منها كل معرفة لكل أسماء الشر ومرادفاته. ومُحيت من ألفاظ القاموس البشري الجديد كلمة الخطيئة وما يتبعها من كلمات الفساد، والظلم، والزنى، والدعارة، والقتل، والخداع والكذب والسرقة... وما إلى ذلك.
??مع محو الماضي الأثيم كله من ذاكرته، مع كل أخباره وقصصه وذكرياته، كما تُمحى صور الناس الأشرار، أعداءً أو أصدقاء. وبعبارة مختصرة: يُنسى كل ما تركز في العقل الباطن وفي الذاكرة. ويصبح للطبيعة البشرية في التجلي عقل باطن جديد طاهر لا يحوي إلا البر، كما يكون لها قاموس جديد للألفاظ، ليست فيه كلمات الخطيئة على الإطلاق. بل كل ألفاظ جديدة بارة.
??وفي تجلي المعرفة، يبدأ أن يكون للإنسان معرفة بالله، أقصد المعرفة الحقيقية العميقة.فنحن الآن لا نعرف عن الله إلا اسمه، دون أن نعرف الجوهر: نعرف مثلاً أن الله كامل، ولكن ما كنه هذا الكمال؟ هذا لا نعرفه. نعرف أن الله عظيم. ومع ذلك لا نعرف ما كنه هذه العظمة. نعرف أن الله أبرع جمالاً من بني البشر، ولكننا لا نعرف ما كنه هذا الجمال. كل ما نعرفه عن الله هو مجرد أسماء كثيرة، دون أن ندرك كنهها!!
ولكن في الأبدية، حين تتجلى طبيعتنا البشرية، فإن معرفتنا سوف تتجلى، حينما يكشف لنا ذاته أو بعضاً من ذاته. فنصبح في ذهول من عجب وروعة مما لا نستطيع أن ندركه. حينئذ يوسع الله مجال إدراكنا حتى نستوعب عنه ما هو أكثر... ومع ذلك كل ما ينكشف لنا من مجد الله وجلاله وجماله وكماله، يجعلنا فى غاية الذهول والعجب، والعجز عن الإدراك، فيوسع الله إدراكنا أكثر وأكثر حتى يمكننا أن نقترب من فهم ذاته الإلهية، ونحن لا نفهم! أما متى سنعرف الله كما هو، فهذه هى الحياة الأبدية بطولها غير المحدود التي لا تكفى لمعرفته مهما تجلت معرفتنا!. على أننا كلما نعرف عن الله أكثر، كلما نزداد فى محبته وإجلاله.
??ومع تجلى معرفتنا، نبدأ فى أن نعرف أشياء أخرى عن الملائكة بكل طغماتهم وصفوفهم وعملهم، ويحتاج هذا بلا شك إلى مدى طويل. ثم تتوسع معرفتنا بجميع الأنبياء والرسل والشهداء والعبّاد والنساك وسائر الذين أرضوا الرب منذ البدء. فنفرح بهذا ونبتهج بعشرتهم. وتزداد معرفتنا سعياً وراء فهم كل أسرار الملكوت.
وكل هذا يعمّر عقلنا الواعي وعقلنا الباطن بأخبار البر التي تتعلق بكل هؤلاء وكل ما عملوه فى محبة الله وإرضائه. وبكل هذا نتعلق بالبر وبالخير، ويصبح طبيعة فينا، لسنا نجاهد لإدراكها كما كان يحدث فى الحياة الأرضية.
?? وأخيراً، وأنا أتكلم عن تجلى الطبيعة البشرية، أريد أن اذكر بعض أمثلة لتبسيط هذا الموضوع:
يحدث أحياناً فى أيامنا هذه أن يكون فكر شخص صافياً تخرج منه أفكار فى منتهى الروعة. كأن يؤلف قصة أو رواية فى منهج الإبداع، تترك تأثيراً عميقاً فى الكل. أو شخص ينظم قصيدة تعتبر من أمهات الشعر فى خيالها وموسيقاها وعميق معانيها... فنقول عن هذا الشاعر أو ذلك القصصي إنه كان فى حالة تجلى.
وقد نقول عن إنسان إنه فى حالة تجلى، اذا كان الله قد وهبه موهبة معينة بقدرة غير طبيعية فى لون من الفن أو الموسيقى أو الرسم أو النحت أو فى صناعة ما. فينتج إنتاجاً نادراً نقول عنه إنه نوع من التجلي. ولكن كل هذه الأمثلة تدل على تجلِِّ مؤقت. أما التجلي الذى يكون للطبيعة البشرية بعد القيامة، فهو دائم وثابت.
??ما أعظم التجلي الذى يكون لطبيعتنا فى الأبدية. ولكن ما قلناه ينطبق على الأبرار الذين يصلون إلى السماء، وهم فى حالة من النقاوة تؤهلهم لمجد هذا التجلي.
ليتنا إذن نستعد لكل ذلك بحياة مقبولة أمام الله.