كيفية ظهور الله للأنبياء، في العهد القديم
أولاً - ظهوره بهيئة غير منظورة
بما أن الله منزَّه عن الزمان والمكان، ولا يُرى في ذاته على الإطلاق، لأنه ليس له شكل أو أعضاء، كان من البديهي أنه عندما يعلن لنا ذاته أو مقاصده، أن يكون ذلك بطريقة غير منظورة، فيُسمعنا صوتاً دون أن نرى منه شيئاً. لذلك إذا رجعنا إلى الكتاب المقدس، وجدنا أنه كان يظهر في صوت دون شكل، كما ظهر لآدم (تكوين 3:
وصموئيل (1صموئيل 3: 4) وإشعياء وإرميا وغيرهما من الأنبياء. فقد قال موسى النبي لبني إسرائيل: وكلّمكم الرب من وسط النار، وأنتم سامعون صوت كلام، ولكن لم تروا صورة بل صوتاً... فاحتفظوا جداً لأنفسكم، فإنكم لم تروا صورة ما، يوم كلّمكم الرب في حوريب من وسط النار لئلا تفسدوا وتعملوا لأنفسكم تمثالاً منحوتاً، صورة مثال ما (تثنية 4: 12-16).
و النار رمز لقداسة الله، لأنه من هذه الناحية لا يستطيع الخاطئ أن يتوافق مع الله على الإطلاق (عبرانيين 10: 29)، وهي أيضاً رمز لقوته المطهّرة التي تقضي على كل شر في الناس وغير الناس (1كورنثوس 3: 13)، وهي كذلك رمز للآلام والضيقات، كما سيتبين فيما يلي من هذا الفصل.
والآن وقد عرفنا أن الله كان يظهر لبني اسرائيل في صوت أو كلام، لنسأل أنفسنا:
1 - هل كان من الممكن لبني إسرائيل أن يصدّقوا أن الله هو الذي كان يتكلّم أمامهم، لو أنه كان يُسمعهم صوتاً عادياً، في ظروف عادية، بدلاً من النار المرعبة التي كان يتكلم معهم منها؟
الجواب: أكبر الظن أنهم لم يكونوا ليصدقوا، لأنه ليس كل صوت لا يُعرف مصدره، يكون صادراً من الله.
2 - هل يتوافق مع عطف الله على البشر من جهة، وضعف البشر وقصورهم من جهة أخرى، أن يظهر لهم في نار، كلما أراد أن يعلن لهم ذاته أو مقاصده؟
الجواب: أكبر الظن أنه لا يفعل ذلك، لأن النار مرعبة ومخيفة، فقد استولى بسببها الفزع على بني إسرائيل، حتى أنهم لم يطيقوا أن تُزاد لهم كلمة خشية أن يموتوا، كما هال منظرها موسى النبي نفسه، حتى أنه ارتعب وارتعد (عبرانيين 12: 19-21، تثنية 18: 16). وبما أن الله لكماله لا يريد أن يرعبنا أو يخيفنا، بل أن يمنحنا سلاماً واطمئناناً، كان من البديهي أن يكلّمنا في جو هادئ لا يُرعب أو يُخيف.
3 - قد يسأل سائل: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا كان الله يظهر في نار لبني إسرائيل؟
الجواب: أكبر الظن أنه كان يظهر لهم في نار، لأنهم كانوا وقتئذ شعباً بدائياً، والشعب البدائي لا يفهم الواجب عليه بصوت النعمة بقدر ما يفهمه بصوت القوة. ولكن عندما يسمو روحياً، يستطيع أن يفهم النعمة ويفيد منها، إذا وجد نفسه عاجزاً عن القيام بالواجب عليه من تلقاء نفسه. فالنعمة لا تتجلى للذين لا يعرفون الواجب عليهم، بل للذين يعرفونه، ويشعرون بعجزهم عن أدائه، من تلقاء أنفسهم.
4 - هل يتوافق مع محبة الله للبشر، أن يقتصر في معاملته معهم على الظهور لهم في كلام يُسمعهم إياه؟
الجواب: أكبر الظن أنه لا يقتصر على ذلك، لأنه من شأن المحب أن يُفسح المجال أمام من يحبهم، ليقتربوا منه ويتوافقوا معه. وإذا كان الأمر كذلك، كان من البديهي أن يظهر لهم في هيئة واضحة يمكنهم إدراكها، وعن طريقها يمكنهم الاتصال به والتوافق معه. وبما أننا لا نستطيع أن نتصل أو نتوافق إلا مع إنسان نظيرنا، لأننا لم نألف العيش إلا معه، ولا نفهم إلا لغته، كان من البديهي أن يتنازل الله ويظهر لنا، أو لأكثر الناس استعداداً منا للاتصال به، في هيئة إنسانية أو قريبة من الإنسانية. لذلك لا غرابة إذا طالعنا الكتاب المقدس في مواضع أخرى منه، بأنه كان يظهر أيضاً للأنبياء والقديسين، تارة في هيئة ملاك، و أخرى في هيئة إنسان، كما يتضح فيما يلي:
ثانياً - ظهوره بهيئة منظورة
1 - عندما كانت هاجر في البرية، قيل بالوحي إنه ظهر لها ملاك الله، وقال لها: تكثيراً أُكثِّر نسلك فدعت اسم الرب الذي تكلّم معها أنت إيل رئي أي أنت إله رؤية أو بتعبير آخر أنت إله حقيقي يمكن رؤيته (تكوين 16: 10-13).
وكلمة الرب هنا، ترد في الأصل العبري يهوه أي الكائن بذاته وهو اسم الجلالة الذي يتفرد به، ولذلك قال لهاجر: تكثيراً أكثّر نسلك بينما لو كان ملاكاً عادياً، لكان قد قال لها مثلاً: الرب يكثر نسلك تكثيراً .
2 - وعندما كان إبراهيم الخليل جالساً مرة عند باب خيمته، رأى ثلاثة رجال واقفين، فركض إليهم وتحدَّث معهم. فاتضح له أثناء الحديث أن اثنين منهما كانا ملاكين، وأن الثالث كان هو الرب نفسه. وقد تحقق إبراهيم من شخصية الثالث هذا تحقّقاً كاملاً، ولذلك كان يدعوه تارة المولى وتارة أخرى ديَّان كل الأرض (تكوين 18: 25 و 27). كما قيل بالوحي عن هذا الشخص في خمس آيات متتالية إنه الرب يهوه (تكوين 18: 13، 17، 20، 26، 33). وعندما أمسك إبراهيم السكين بعد ذلك ببضع سنين، ليذبح ابنه اسحق، قيل بالوحي إن ملاك الرب ناداه: لا تفعل به شيئاً... فدعا إبراهيم اسم ذلك الموضع يهوه يرأه، أي الرب يرى (تكوين 22: 11-14).
3 - وعندما كان يعقوب في بيت خاله لابان، قيل بالوحي إن ملاك الله قال له: ... أنا إله بيت إيل (تكوين 31: 11-13). وبعد ثلاث عشرة سنة بنى يعقوب مذبحاً للرب، وقيل بالوحي إنه دعا المكان إيل بيت إيل، لأن هناك ظهر له الله (تكوين 35: 7). وإيل كلمة عبرية معناها الله .
4 - وعندما كان موسى يرعى غنماً في البرية، قيل بالوحي إن ملاك الرب ظهر له بلهيب نار من وسط عليّقة. ولما دنا موسى إليها ليراها، قيل بالوحي: فلما رأى الرب أنه مال لينظر، ناداه الله: أنا إله أبيك، إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب (خروج 3: 4، 6، 15).
والعلّيقة نبات متسلق أو متعلق، يعتمد في نموه أو تمدده على الأشجار أو الجدران التي يتسلق عليها أو يتعلق بها، وهي لذلك أنسب رمز لضعف اليهود في أرض الفراعنة، وحاجتهم الماسة وقتئذ إلى معونة الرب لهم. وعدم احتراق العلّيقة التي رآها موسى، على الرغم من النيران التي كانت تحيط بها، إشارة إلى حفظ الله لبني إسرائيل من الفناء بيد فرعون.
5 - وعند خروج بني إسرائيل من مصر، قيل بالوحي وكان الرب يهوه يسير أمامهم (خروج 13: 21)، ولما اقترب فرعون بجيوشه منهم قيل بالوحي: فانتقل ملاك الله السائر أمام عسكر اسرائيل، وسار وراءهم (خروج 14: 19).
6 - ولما ذهب منوح مع زوجته مرة إلى حقله، رأى إنساناً، فسأله عن اسمه، فأجابه: لماذا تسأل عن اسمي وهو عجيب! . ويتبيَّن في الفصل التالي أنه كان أقنوم الابن قبل ظهوره للعالم. وهذا الأقنوم، كما نعلم، عجيب في كل شيء: فهو غير المنظور والمنظور، وهو غير المتحيّز بحيزٍ ويظهر في حيزٍ، وهو الله وابن الله معاً، وهو ابن الله وابن الإنسان أيضاً. فضلاً عن ذلك فهو عجيب في تجسده، وعجيب في حياته على الأرض، وعجيب في موته، وعجيب في قيامته، وعجيب ... وعجيب ... كما ذكرنا في الباب الثالث من كتاب الله - ذاته ونوع وحدانيته .
وعندما تجلَّت لمنوح حقيقة هذا الإنسان، أثناء صعوده إلى السماء، سقط هو وزوجته على وجهيهما إلى الأرض، ثم قال لها: نموت موتاً، لأننا قد رأينا الله (قضاة 13).
(منوح هو أبو شمشون، وقد ظهر له الرب قبل ولادة ابنه هذا لينبئه بولادته، ويعطيه بعض التعليمات الخاصة بتربيته، ومن أهمها عدم إعطائه مسكراً).
مما تقدم، يتضح لنا أن الذي كان يظهر للأنبياء، في هيئة ملاك تارة، وفي هيئة إنسان تارة أخرى، ليعلن لهم في شخصه ذات الله ومقاصده، وكان يُدعى الملاك بال التعريف، أو ملاك العهد . ولم يكن في الواقع ملاكاً أو إنساناً، بل كان هو الرب يهوه نفسه، متنازلاً في هيئة منظورة، هذا طبعاً ما لم يكن قد اتضح من حديثه، أنه ميخائيل أو جبرائيل، أو ملاك آخر. وذلك للأسباب الآتية:
1 - إنه كان يعلن لمن يظهر لهم، أنه يهوه والله، وان الأنبياء أيضاً كانوا يعلنون أنه يهوه والله كما كانوا يعلنون في مواضع أخرى أنه حضرة الله و وجه الرب . و حضرة الله و وجه الرب، ليسا شيئاً سوى ذات الله أو الرب، أو بتعبير أدق ليسا شيئاً سوى الله أو الرب في حالة الظهور. (تثنية 4: 37، خروج 14: 24 و33: 14 و16، عدد 6: 24 و 25، مزمور 139: 7).
2 - إن الأعمال التي كان يقوم بها كالرعاية والهداية والخلاص، ومنح النعم والبركات، تدل على أنه كان هو الله بعينه. لأنه لا يمكن أن يقوم بهذه الأعمال كائن سواه.
3 - إن كلمة الملاك أو ملاك الرب، وردت في الكتاب المقدس مرادفاً لاسم الرب أو الله . فقد قال زكريا النبي: مثل الله، مثل ملاك الرب (زكريا 12:
، وقال الوحي عن يعقوب: جاهد مع الله، جاهد مع الملاك (هوشع 12: 3 و 4). وقال يعقوب عندما بارك ابني يوسف: الله الذي رعاني، الملاك الذي خلصني، يبارك الغلامين (تكوين 48: 15 و16) لأنه لم يكن في ذاته ملاكاً من ملائكة الله، بل كان، كما سبقت الإشارة، هو أقنوم الابن. ومما تجدر الإشارة إليه في هذه المناسبة أن الترجوم اليهودي قد أطلق على ملاك يهوه أو ملاك الرب اسم شكينا، وهي إحدى الكلمات العزيزة لدى المؤمنين قاطبة، ومعناها سكنى الله أو حضوره . ويستنتج من الترجوم أن شكينا، مثل ممرا أو كلمة الله، لا يراد بها مجرد معنى بل ذات. وكانت تُطلق في الأصل على حلول مجد الرب بين الكروبين (وهما تمثالا الملاكين، اللذان كانا على غطاء التابوت في قدس الأقداس - خروج 37: 6-9). وهذا الحلول، كان في الواقع مثالاً لما كان عتيداً أن يقوم به أقنوم الابن في الجسد على الأرض وقتاً ما، وفي الروح لجميع المؤمنين الحقيقيين إلى الأبد. فقد قال الوحي عن هذا الأقنوم: والكلمة صار جسداً وحلّ بيننا، ورأينا مجده، مجداً كما لوحيد من الآب، مملوءاً نعمة وحقاً (يوحنا 1: 14، إقرأ أيضاً يوحنا 14: 23، ومتى 18: 19).
وكان العرب يعرفون شيئاً عن شكينا، وكانوا ينطقونها سكينة (كما هو الحال في جميع الكلمات العبرية، التي بها حرف ش ). والسكينة، وإن كانت لغة هي الهدوء والطمأنينة، إلا انها أيضاً كما جاء في (قاموس المحيط ج4 ص 237)، شيء كان له رأس من زبرجد وياقوت، وله جناحان . وهذا الوصف ينطبق إلى حد كبير على الكروب أو الملاك. وقد وردت هذه الكلمة عينها في (سورة البقرة 248)، فقيل إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة . وقد ذهب علماء الدين، كما يقول الطبري إلى أن السكينة لها وجه إنسان ثم هي ريح هفافة، وهذا الوصف يمكن أن ينطبق على الكروب أو الملاك. أو أنها الرحمة والوقار . والرحمة يمكن أن تكون اسم غطاء التابوت، الذي كان يوجد عليه الكروبان، والوقار يمكن أن يكون وصفاً للحالة التي كانا يبدوان بها (إقرأ مثلاً سفر الخروج 25: 1-22). ومما تجدر ملاحظته أن القديس أثناسيوس، الذي عاش في القرن الرابع، قد وصف التابوت بأنه تابوت السكينة قاصداً بذلك أن التابوت هو رمز لسكنى الله مع شعبه (1صم 5: 6، 2صم 6). وهذا التابوت، كما يتضح لكل من درس التوراة ورموزها، كان رمزاً للمسيح، ليس فقط من جهة حلوله بلاهوته وسط المؤمنين به، بل أيضاً من جهات كثيرة خاصة بذاته وصفاته وأعماله.
وقد يسأل بعض الناس: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا يبدو من بعض الآيات الأخرى أن ملاك يهوه هو كائن غير يهوه ؟
الجواب: مرّ بنا أن ملاك يهوه هو أقنوم الابن، الذي إذا نظرنا إليه من حيث الأقنومية، هو غير الآب والروح القدس. ولكن إذ نظرنا إليه من حيث الجوهر، فهو واحد مع هذين الأقنومين في اللاهوت بكل خصائصه وصفاته، كما يتضح من الآيات المذكورة أعلاه. ولذلك فهو من الناحية الواحدة ملاك يهوه، ومن الناحية الأخرى هو يهوه بعينه. كما أنه من جهة الناسوت، الذي اتخذه في العهد الجديد، (والذي كان الوحي يعلن في العهد القديم أنه مزمع أن يتخذه) هو ابن الإنسان . ومن جهة اللاهوت هو ابن الله الواحد مع الأقنومين الآخرين في اللاهوت - ونظراً لأننا سنتحدث عن هذه الحقيقة بالتفصيل في الفصول المقبلة، نكتفي هنا بهذه الملاحظة.
4 - كلمة ملاك ليست في الأصل اسماً للمخلوق الذي يُعرف بهذا الاسم، بل إنها اسم للمهمة التي يقوم بها، وهي تبليغ الرسائل . فالاصطلاح ملاك الرب معناه حسب الأصل المبلِّغ لرسائل الرب . ولما كان الرب هو خير من يقوم بتبليغ رسائله (لأن كل ما عداه محدود، والمحدود لا يستطيع أن يعلن إعلاناً كاملاً، ذات أو مقاصد غير المحدود) لذلك يحق أن يسمَّى الرب من جهة ظهوره لتبليغ رسائله ب- ملاك الرب بمعنى المعلن لمقاصده أو المعلن لذاته، أو بالحري بمعنى ذاته معلناً أو متجلياً لأنه لا يعلن ذات الله سوى الله، إذ أن كل ما عداه محدود، والمحدود لا يستطيع أن يعلن غير المحدود، كما ذكرنا.
الأقنوم الذي كان يظهر للأنبياء في العهد القديم
بما أن أقنوم الابن أو الكلمة هو الذي يعلن الله (أو اللاهوت) منذ الأزل الذي لا بدء له، فلا شك أنه هو الذي كان يظهر للأنبياء والأتقياء السابق ذكرهم، تارة في هيئة ملاك وتارة أخرى في هيئة إنسان، ليعلن لهم ذات الله (أو اللاهوت) مع مقاصده. والأدلة الآتية تثبت أيضاً هذه الحقيقة:
1 - العبارة ظهر الرب، الواردة في (تكوين 12: 7، 26: 2 و24)، يُراد بها في الأصل العبري ظهر كلمة الرب . ولذلك نرى أن أنقيلوس اليهودي (الذي ترجم التوراة من العبرية إلى الأرامية، في القرن الثاني قبل الميلاد) استعاض في ترجمته عن اسم الله، بكلمة ممرا أي الكلمة . كما استعيض عن اسمه تعالى بهذه الكلمة في التلمود والمدراش معاً، وهما أهم الكتب المقدسة عند اليهود بعد التوراة.
2 - شهد فيلون الفيلسوف اليهودي المشهور (الذي عاش قبل الميلاد، والذي كان على دراية تامة بكل أسفار التوراة) أن اللوغوس أو الكلمة هو الذي كان يظهر في هيئة ملاك لإبراهيم وإسحق ويعقوب، وغيرهم من الآباء.
3 - كان الأنبياء يعبّرون عن كيفية وصول الوحي إليهم بالقول: وكانت كلمة الرب إلى (...النبي) قائلاً (زكريا 1: 1 وحجي 1: 1). ومما يدل على أنه لا يُقصد ب- كلمة الرب هنا مجرد كلام، بل شخص أو ذات. و يُستنتج من أقوال الوحي أن لها الشخصية أو الذاتية ذات الكيان الواقعي، والتي لها أيضاً عمل وكلمة. فقد قال حزقيال النبي بالوحي إن كلمة الرب صارت إليَّ قائلة: يا ابن آدم قد جعلتك رقيباً لبيت إسرائيل. فاسمع الكلمة من فمي وأنذرهم من قِبلي (حزقيال 3: 17، 18)، وهذا دليل على أن كلمة الرب (الذي كان يظهر للأنبياء)، لم يكن مجرد كلام كما ذكرنا، بل كان أقنوم الكلمة بعينه.
وكلمة كلمة الواردة في هذه العبارة، ترد في الأصل العبري في صيغة المذكر، وهي نفس الكلمة الواردة في الآيتين السابقتين المقتبستين من (زكريا 1: 1، وحجي 1: 1) ومعناها الحرفي تدبير أو فكر . ولذلك فالآية الواردة في (حزقيال 3: 17، 18) تُترجم، حسب النص الحرفي للغة العبرية ان كلمة الرب صار إليَّ قائلاً.... مثل الآيتين الواردتين في سفري زكريا وحجي تماماً.
4 - جاء في كتاب (الحكمة) عن الكلمة أنها واحدة، وأنها تحيا عند الله وتجلس على عرشه وتعلم أسراره وأنها الصانعة لكل عمل من أعماله، وأنها تتجلى للذين يحبونها باسمة لهم راضية عنهم، وأنها ترافقهم أثناء سيرهم في هذا العالم وتنجّيهم من أعدائهم، وفي الآخرة تتولى مكافأة الصالحين على أعمالهم. وهذا دليل آخر على أن أتقياء اليهود كانوا يعتقدون أن الكلمة أو كلمة الله ليست مجرد لفظ أو عبارة، بل أنه الله . أو بحسب الاصطلاح المسيحي أقنوم الكلمة لأنه وحده يستطيع القيام بهذه الأعمال.
5 - كانت التوراة قد أعلنت بكل صراحة، أن المسيح المزمع أن يأتي إلى العالم هو ملاك العهد (ملاخي 3: 1، 2)، وأنه أيضاً هو ابن الإنسان أو إنسان (دانيال 7: 13 وحزقيال 1: 26). وقد أعلن العهد الجديد كذلك أن المراد ب- ملاك العهد وابن الإنسان الوارد ذكرهما في هذه الآيات هو المسيح أو أقنوم الكلمة نفسه (متى 11: 10، 24: 30)، مما يدل على انه ذات المولى الذي كان يظهر للأنبياء والأتقياء في هيئة ملاك أو إنسان في العهد القديم.
6 - معنى ملاك في الأصل رسول . وإذا رجعنا إلى العهد الجديد وجدنا أن أقنوم الكلمة أوالمسيح يُدعى (من ناحية كونه ابن الإنسان) رسولاً. فقد قيل عنه إنه رسول اعترافنا (عبرانيين 3: 1)، وإنه أُرسل من عند الله لنا. أو بتعبير آخر إنه رسول الله (أو اللاهوت) لنا (غلاطية 4: 4) لأنه هو الذي يعلنه ويُظهره. وطبعاً ما كان من الممكن لغيره أن يقوم بهذه المهمة، لأن كل ما عداه مخلوق، والمخلوق محدود، والمحدود لا يستطيع أن يعلن غير المحدود.
كيفية ظهور الله للبشر عامة، في العهد الجديد
أولاً - الحاجة إلى ظهوره في الجسد
عرفنا مما سلف أنه بسبب سقوطنا في الخطيئة قد فقدنا امتياز الاتصال بالله ومعرفة ذاته ومقاصده معرفة صحيحة. ولذلك كان أقنوم الكلمة أوالابن يظهر للأنبياء والأتقياء في العهد القديم في هيئة ملاك أو إنسان، ليقرِّبهم إلى الله ويعلن لهم ذاته ومقاصده. لكن ظهوره بهذه الهيئة أو تلك، وإن كان كافياً حينذاك للمهمة التي كان يظهر من أجلها، لم يكن ظهوراً كاملاً أو عاماً، إذ أنه لم يكن يفسح المجال لهم للتوافق مع الله أو الانسجام معه، كما أنه كان قاصراً عليهم وحدهم، ولذلك لم يفد منه غيرهم من البشر. وبما أن الله يتَّصف بالمحبة المطلقة التي تتَّجه إتجاهاً كاملاً إلى جميع البشر بلا استثناء، كان من البديهي ألاَّ يكتفي الله بمثل هذا الظهور الشكلي أو يجعله قاصراً على فئة الأنبياء دون غيرهم. ولذلك لا غرابة إذا طالعنا في الكتاب المقدس بعد ذلك أن الله أو بالحري أقنوم الابن ظهر في جسد حقيقي مثل أجسادنا، وعاش على أرضنا مدة مناسبة من الزمن، خاطب فيها البشرية وأعلن ذاته إعلاناً واضحاً جلياً.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذه المناسبة، انه جاء في (سورة الشورى 51): وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب، والكتاب المقدس كان قد أعلن من قبل، أن جسد المسيح هو الحجاب (عبرانيين 10: 20) الذي كلمنا الله من ورائه، فقد قال: الله بعد ما كلم الآباء بالانبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه (عبرانيين 1: 1، 2).
ثانياً - توافق ظهوره في الجسد، مع ذاته وصفاته
ينظر بعض الناس إلى ظهور الله في الجسد كأمر غريب، ولكنه في الواقع ليس أكثر غرابة من ظهوره للأنبياء والأتقياء السابق ذكرهم، في هيئة منظورة أو غير منظورة، لأن الغرابة ليست في اتخاذه جسداً مثل أجسادنا، بل الغرابة هي في: كيف يكون غير المحدود معيَّناً (واللامحدودية تتعارض عقلياً مع التعيُّن) وكيف يظهر المنزَّه عن المكان في مكان، وظهوره فيه يتعارض عقلياً مع عدم تحيّزه بمكان؟ وكيف يصبح المنزَّه عما سواه ذا علاقة مع سواه، والعلاقة معه تتعارض عقلياً مع ثباته، وعدم انتقاله من حال إلى حال؟ وكيف يتكلم من لا أعضاء له ولا تركيب فيه، والتكلم يتطلب وجود أعضاء أو تركيب في المتكلم؟ وهذه الصعوبات تواجهنا عند البحث في كيفية تحدُّث الله مع الأنبياء والأتقياء، وفي كيفية ظهوره لهم بهيئة منظورة أو غير منظورة. بل وتواجهنا أيضاً عند التأمل في كُنْه ذاته، ووجود علاقات بينه وبين خلائقه، كما تواجهنا عند البحث في ظهوره في جسد إنسان سواءً بسواء. ولذلك لا يحق لإنسان يؤمن بظهور الله للأنبياء وتحدُّثه معهم، أو حتى بوجوده الذاتي وإمكانية معرفته، والدخول في علاقة معه، أن يعترض على ظهوره في الجسد بأي وجه من الوجوه. فإذا أضفنا إلى ذلك أن ظهوره في الجسد هو وسيلة لإعلان محبته الكاملة للناس، اتضح أيضاً لنا أن ظهوره فيه لا يتعارض مع ذاته أو صفاته في شيء. بل بالعكس يتوافق مع ذاته وصفاته كل التوافق، لأن المحبة ليست دخيلة على الله، بل إنها (إن جاز التعبير) هي من نفس كيانه، وذلك للأسباب الآتية:
(أ) خلق الله الإنسان على صورته كشبَهه ليكون في حالة التوافق معه، ولذلك لا يستنكف من أن يتخذ لنفسه أيضاً جسداً مثل جسده، إذا رآه في حاجة إلى إحسان يتطلَّب ظهوره له في هذه الهيئة.
(ب) إن ظهوره للإنسان في جسد مثل جسده، ليس في الواقع إلا مظهراً من مظاهر المحبة له والعطف عليه، ليستطيع الإنسان أن يدنو منه ويحيا معه. وغرض مثل هذا يتوافق مع كمال الله وصلاحه كل التوافق.
(ج) إن ظهوره في مثل هذا الجسد لا يترتب عليه حدوث أي تغيير في ذاته أو خصائصه وصفاته، كما يتضح لنا بالتفصيل في الباب التالي.
ثالثاً - توافق ظهور الابن في الجسد، مع أقنوميته
(1) بما أن أقنوم الابن هو الذي كان يعلن الله للأنبياء في العهد القديم، في هيئة ملاك أو إنسان كما مرَّ بنا، كان من البديهي أنه هو الذي يتخذ أيضاً لنفسه جسداً ليقوم بهذه المهمّة للبشرية بصفة عامة.
ويعتقد كثير من علماء المسلمين في تجسُّد الحقيقة المحمدية ما نعتقده في تجسد أقنوم الابن تقريباً، فقد جاء في كتاب الدين والشهادة ص 169-182: إنك أمام الحقيقة المحمدية أمام نور الأنوار الذي تجسّم وتجسّد فكان ذاتاً بشرية، ثم كان محمداً بن عبد الله .
(2) لئن كان الله بأقانيمه الثلاثة هو الذي خلقنا، إلاَّ أن الخلق يُنسب بصفة خاصة إلى أقنوم الابن، وبما أن الذي خلقنا هو الذي يتولى أمر خلاصنا وهدايتنا إليه، كان من البديهي أيضاً أنه هو الذي يقوم باتخاذ الجسد المذكور، دون الأقنومين الآخرين